مساء 21 فبراير 1946 زمن المشهد الأول من روايتها الأولى، كتبت لطيفة الزيات: "كانت دور السينما مُضربة وكذلك المحال العامة والأتوبيس والترام. وسيارات البوليس تمر في الشوارع محملة بجنود مسلحين بالبنادق، والمارة قلائل... يتحدثون". تتعدد الأصوات، تعلق على ما جرى صباحاً في وسط المدينة، تُعلمنا بالتفاصيل: مظاهرة ضد الإنجليز من 40000 شخص سقط منهم 23 قتيلا و122 جريحاً.
وبين هذا المشهد الأول والمشهد الختامي حيث الجموع تُسقط تمثال فرديناند دلسيبس (صاحب مشروع قناة السويس وتجسيد القهرالاستعماري) تجري أحداث الرواية بمصائر الشخصيات، وفي المركز منها شخصية ليلى.
كانت رواية الباب المفتوح (1960) علامة فارقة في كتابة المرأة العربية لا لتماسك بنائها وحيوية شخصياتها فحسب، بل لأن الكاتبة أخرجت المرأة من الهامش الاجتماعي الذي زُجّت فيه في الحياة والكتابة معا، ودفعت بها وبحكايتها الى مركز الحدث التاريخي. كانت الرواية العربية في مصر منذ نشأتها على يد المويلحي وتطورها على يد توفيق الحكيم ومن بعده نجيب محفوظ مسكونة بهاجس التأريخ، وكأنما مشروع الروائي مهما تعددت مواضيعه هو في أساسه مشروع تأريخي لحكاية الجماعة التى ينتمي اليها، وسعيها الى التحرروالنهضة. ولم تكن لطيفة الزيات في روايتها تربط بين تحرر المرأة وتحرر الوطن فقط ولكن أيضا وهذا هو الأهم، كانت تقدم نصاً أنتجته امرأة يدخل في مجرى الرواية العربية بالتعبير عن أكثر همومها إلحاحاً، ويرفد هذا المجرى برؤية للتحرر الوطني والاجتماعي مركزها امرأة.
وربما كان من المنطقي أن يتحقق هذا الإنجازعلى يد لطيفة الزيات.
ولدت لطيفة الزيات عام 1923 أى بعد أربع سنوات من ثورة 1919. في عام 1922 أعلنت بريطانيا إعترافها بمصر دولة مستقلة، وفي العام التالى عاد قائد الثورة سعد زغلول من منفاه ليشكّل أول حكومة دستورية في تاريخ مصر. ورغم ذلك بقيت قوات الاحتلال، وبقى الملك يملك ويحكم. وكان على الوفد، حزب الأغلبية الذي قاد الثورة، أن يتقاسم المشهد السياسي مع القصر والسفارة البريطانية.
تقول لطيفة الزيات في سيرتها الذاتية إنها وهى طفلة كانت تلعب وتغني: "يا مصر ما تخافيش/ ده كله كلام تهويش/ وابونا سعد باشا وأمنا صفصف هانم." كلمات الأغنية الدارجة وإن لم تكتسب بعد امتلاء التجربة، تتسرب إلى وجدان الطفلة، تشكّلها. تقول لطيفة الزيات: "وأنا في الحادية عشرة من عمري أطل من شرفة بيتنا في شارع العباسي بالمنصورة ... أنتفض بالشعور بالعجز، بالأسى بالقهر ورصاص البوليس يردي أربعة عشر قتيلا من بين المتظاهرين في ذلك اليوم، وأنا أصرخ بعجزي عن الفعل، بعجزي عن النزول الى الشارع لإيقاف الرصاص ينطلق من البنادق السوداء، أُسقط الطفلة عني، والصبية تبلغ قبل أوان البلوغ مثخنة بمعرفة تتعدى حدود البيت لتشمل الوطن في كليته، ومصيري المستقبلي يتحدد في التو واللحظة وأنا أدخل ... الالتزام الوطني من أقسى وأعنف أبوابه".
أقدم ما لدينا من الصور الفوتوغرافية للطيفة الزيات، صورة لصبية منتبهة ومتسائلة في الثالثة عشرة أوالرابعة عشرة من عمرها أُرّجح أنها التقطت لها في الفترة بين عام 1935 و1937. أتساءل هل تابعت لطيفة في تلك الفترة انتفاضة الطلاب في الجامعة وسمعت باستشهاد محمد عبد الحكيم مرسى ومحمد عبد الحكم الجراحى أول شهيدين تقدمهما الجامعة بعد ثورة 1919؟ أكاد أجزم أنها تابعتها. كانت الأسرة انتقلت الى القاهرة بعد موت عائلها، وكان شقيقاها طالبين في الجامعة، والأصغر بينهما نشط في العمل السياسي (استلهمت صورته وتأثيره في صورة الأخ في الباب المفتوح).
كانت لطيفة تلميذة في السنة النهائية من المرحلة الثانوية حين حاصرت قوات الإنجليز قصر عابدين وأملت على الملك وزارة وفدية. بعد شهور معدودة دخلت الجامعة. كان نجم الوفد في أفول فشاركت في الحركة الوطنية بانتمائها الى إحدى المنظمات الشيوعية (منظمة إسكرا)، وحين وصلت الفرقة الرابعة من دراستها الجامعية في عام 1946 كانت أصبحت قائدة طلابية وانتخبت في سكرتارية اللجنة الوطنية العليا للطلبة والعمال التى شاركت في تنظيم المظاهرات الطلابية في 9 فبراير ومظاهرات 21 فبراير الأوسع نطاقا.
في 9 فبراير خرجت لطيفة مع زملائها الطلاب من الحرم الجامعي في مظاهرة كبيرة يقصدون وسط المدينة، وعلى كوبري عباس حاصرتهم الشرطة بإطلاق النار عليهم من ورائهم وفتح الكوبري من أمامهم. في روايتها الأولى كتبت لطيفة الزيات عن 21 فبراير ولم تكتب واقعة كوبري عباس إلا في سيرتها الذاتية بعد خمسة وأربعين سنة، كتبتها باقتضاب.
من شبّاك طفولتها كانت الصبية قد تطلّعت، فلما تطلّعت رأت وانتبهت الى أن عالم الذات، والأسرة الصغيرة المنكفئة على نفسها، والمجتمع المستقر بشروط أمره الواقع، والمستقبل المرسوم سلفاً بنفس الشروط ليست سوى جزء من عالم مغلق وخانق. أقول تطلعت فانتبهت فاختارت أن تخرج منه وأن تخرج عليه.
في سيرتها الذاتية: حملة تفتيش: أوراق شخصية (1992) تكتب لطيفة الزيات عن البيت القديم الذي ولدت فيه، تصفه تفصيلا: شجرة الجوافة التى لاتثمر، الحديقة التى لم تكن حديقة على الإطلاق بل مرعى للثعابين، والإضافات العشوائية للبيت التى جعلت منه "معجزة معمارية ربما حال قبحها دون إدراجها كمعجزة الدنيا الثامنة". أما بيت سيدى بشر فهو النقيض يرتبط في وجدان الكاتبة بالخصب والجمال ففيه شجرة مشمش مثمرة، وبركة ماء تنعكس عليها أشعة الشمس نهاراً وضوء القمر في الليل. تقول لطيفة الزيات:
"حين أفكر في البيت بمعنى البيت، تندرج كل... المساكن (التى سكنتها) في ذهني كمجرد منازل، وتبقى حقيقة ألا بيت لى، وحقيقة انه لم يكن لى في حياتى سوى بيتين، البيت القديم، والبيت الذي شمّعه رجال البوليس في صحراء سيدي بشر في مارس 1949". تحوّل لطيفة الزيات هذين البيتين من موقعين جغرافيين ارتبطت بهما الى مجاز دال لا تقتصر إحالاته على حياتها الفردية بل تتجاوزها إلى واقع تاريخى برمته.
في وعى البيتين، والتوزّع بينهما والصراع المضنى من أجل تغليب بيت الاختيار الحر على البيت الموروث، قد يجد المرء مفتاحاً لشخصية لطيفة الزيات ولكافة نصوصها الإبداعية من الباب المفتوح (1960) إلى الرجل الذي عرف تهمته (1995) مرورا بالشيخوخة وقصص أخرى (1985) وحملة تفتيش: أوراق شخصية (1992) وصاحب البيت (1994) وبيع وشرا (1994).
في سيرتها الذاتية كتبت: "كان البيت القديم قدري وميراثي، وكان بيت سيدي بشر صنعي واختياري، وربما لأن الاثنين شكّلا جزءا لا يتجزأ من كيانى، وربما لأننى انتميت إلى الاثنين بنفس المقدار ولم أتوصّل إلى ترجيح أحدهما على الآخر ترجيحا نهائيا، إختّل سير حياتي".
ولا يشكّل هذا الصراع موضوع الكتابة فحسب بل يملى أحيانا شكلها، ففي ثلاث من قصص مجموعة الشيخوخة وقصص اخرى وفي حملة تفتيش: أوراق شخصية تصبح القصاصات والكتابات غير المكتملة والتأملات والمراجعات والحركة المكوكية بين مراحل العمر أداة فنية تتيح الإحاطة بذات ممزقة تواجه نفسها وتحاسبها بشجاعة، وصولا الى جمع شتات النفس وتتويج التجربة بمعرفة الجدل بين النسبي والمطلق، والاستكانة والقدرة على التجاوز، والضرورة والحرية. تأتى المعرفة ومعها يأتى التصالح مع الذات والقدرة على مواصلة السعى الى الحرية.
ترى لطيفة الزيات أن الفعل الإنساني محكوم بجدلية الضرورة والحرية في واقع يشكل الفعل بقدر ما يؤثر الفعل فيه، واقع محكوم بآلاف الضرورات الاقتصادية والسياسية والسلوكية والأخلاقية... "هذا الواقع يملك أن يسلبني الفعل الحر بالوعد والوعيد، بالسجن والتشريد، بالحرمان من العمل وبالتالي من لقمة الخبز الضرورية لعيشي". وتواصل لطيفة الزيات قائلة "إن هذا الواقع ليس من صنعي واختياري وإن ملكت أيضا مع غيري من الناس السعي الى القضاء على ضروراته ضرورة بعد ضرورة... حريتي هى جزئيا جدل ذاتي/ موضوعي دائب بيني وبين واقعي التاريخي الاجتماعي وهو جدل لا يخمد أبدا".
ينتظم هذا المفهوم للحرية كل نصوص لطيفة الزيات. في أول نصوصها، الباب المفتوح تجد ليلى حريتها باشتراكها في المواجهة الشعبية للعدوان الثلاثى على بور سعيد؛ وتنتهى الرواية بالباب المفتوح وقد تحررت البطلة من سجن الذات ونجح المصريون في رد العدوان. وفي "كلمة السر"، آخر ما كتبت، وهى قصة لا تخلو من عناصر فنتازية وقدر من الترميز والتجريد، يخبرنا الراوى : "أحكى هذه الحكاية من الزنزانة رقم 3 عنبر 7 سجن مصر. أتلمّس الكلمات على الضوء الباهت الذي يتسلل مع طلعة الصبح من قضبان حديد قبو الزنزانة." يحكي لنا الراوى حكاية معجزته الخاصة، والرسالة التى أراد إيصالها برغم السجن، وكيف نجح في مسعاه ، وتلقى الرد المرتقب، ثم اكتشف بعد ذلك المعجزة: "انا أملك الآن أن أقول بكل ثقة واعتداد بالذات: إفتح يا سمسم فينفتح باب الزنزانة لا باب الكنز كما في قصة على بابا والأربعين حرامى وإن كان قد اتضح لى مع مرور الأيام أن باب الزنزانة ينفتح عن كنز من نوع فريد ، كنز لا يملك احد أن يسلبه الإنسان الفرد."
وفي قصة "الشيخوخة" تتأمل البطلة مفردات عمرها باحثة عن مواطن الزلل التى عوّقت تحققها فتخلص الى التالى: "لا يملك أحد أن يقتل أحدا. يد القتيل في كل الحالات مخضبة بدمه." ويرد نفس المعنى في سيرتها الذاتية: حملة تفتيش: أوراق شخصية حيث الحملة مزدوجة تفتيش السلطة الجائرة بهدف الترهيب والمعاقبة، وتفتيش المرأ لذاته إذ يواجهها ويحاسبها. وتصف الكاتبة في الجزء الثانى من النص الذي يحمل تاريخ 1981 كيف تم القبض عليها، وفي السيارة التى تحملها الى السجن تقول: "أرتخي في جلستي نشوى بإدراك اننى ألمح حريتي كاملة غير منقوصة في آخر الطريق بعد أن تلطمت طويلا وأنا أضل الطريق الذي وجدته شابة... وتلطمت طويلا لأجد ذاتي وأنا أفقد وأسترد صوتي. وعلى مشارف الستين ها أنا أجلس مرتخية في هدأة الليل في مقدمة عربة الشرطة، والضابط يبحث عن السجن ليودعنى السجن وما من أحد عاد يملك أن يسجنني وحريتي تلوح لي في آخر الطريق كاملة غير منقوصة تنتظر مني أن أمد يدي لأحتضنها".
يكتسب السجن ذو الدلالة المعروفة المحددة معنى مضافا في هذا السياق، يتحول الى علامة نقيضة تشير الى تحرر الذات عبر مواصلة السعى الى الحرية والوفاء بمتطلباتها. ويؤكد السجن المادي المحدد جغرافيا -هناك في القناطر عام 1981-سقوط السجن الأعتى داخل الذات فتتحرر من نكوصها وإحجامها وتتواصل مع غيرها من البشر في فعل المواجهة.وترتكز هذه المفارقة الى فكرة ازدواج المسعى الى الحرية وهى فكرة تتكرر في كل نصوص لطيفة الزيات حيث الجهاد الأصغر يدور ضد قوى القهر السياسية والاجتماعية أما الجهاد الأكبر فصراع الانسان مع ذاته ليتحرر من قوى الموت فيه ويتحمل مسئولياته.
وفي صاحب البيت تعيش البطلة وهم المطلقات: الحب المطلق، والسعادة المطلقة، والحرية المطلقة، وتتوزع متعثرة بين الأصوات داخلها: صوت صاحب البيت يستحضر كافة سلطات القمع: سلطة الأب، وسلطة المعلم ذى العصا، وسلطة الواعظ يتوعد بعذاب النار وصوت النكوص تجسّده الأم والجدة تدعوان الى العودة الى البيت القديم والاستكانة في قاع البئر المظلمة رحما ومقبرة، وفي مقابلها جميعا صوت الواقع بما يفرضه من مسئوليات. ويحسم الصراع حين تدير البطلة ظهرها الى البيت القديم وتواجه صاحب البيت. ولا تنتهى الرواية بموت صاحب البيت فموته يخلّ بما حمّلته له الكاتبة من دلالات رمزية ولكنها تنتهى بمواجهة البطلة له وتمكّنها منه وتحررها بقتل فزعها منه.
باختصار ترى لطيفة الزيات أن السعي وراء المطلقات ومنها مطلق الحرية "تخفف من عبء الوجود الانساني والمسئولية ... تجاه الذات والآخرين". الحرية مشروطة بالزمان والمكان، وهى سعي مزدوج في مواجهة القمع الخارجي وأيضا نكوص الذات أو استبدادها.
إن الطفلة التى غنت "يا مصر ما تخافيش/ دا كله كلام تهويش"، والصبية التى حملتها فورة الحياة فوق بحر المظاهرة ثم جلست بين الصيادين تنتشل جثث زملائها الذين حصدهم رصاص الشرطة، والمرأة المكتهلة التى ساهمت في تأسيس لجنة الدفاع عن الثقافة القومية وقادتها وناضلت ضد المعاهدة المصرية الإسرائلية وما ترتب عليها من محاولات لتطبيع العلاقات بين مصر وإسرائيل، المرأة التي اعتقلت وهي على مشارف الستين، وواصلت عند خروجها من المعتقل نشاطها حتى الشهور الأخيرة من عمرها، أودعت تجارب عمرها في كتابات كان من الطبيعى أن يكون محورها وموضوعها الأكثر إلحاحا هو الحرية. ولأنها كاتبة أصيلة، ولأنها عاشت ما عاشته لم تصور المسعى الى الحرية كطريق سهل وواضح بل جسّدته بعثراته وصعوباته ومزالقه وأيضا ببهائه وسكينته. كتبت الباب المفتوح في كل نصوصها ففتحت الباب لأجيال من الكاتبات ينتسبن اليها و,يواصلن الطريق.